رسائل سياسية تنطلق من فيلم آلام المسيح
لم يحدث في تاريخ السينما أن أثار فيلم ديني جدلاً عالمياً كالجدل الذي أثاره فيلم «آلام المسيح» من انتاج واخراج ميل غيبسون.
ففي الأسابيع الأربعة الماضية بلغت العائدات الاجمالية أكثر من 340 مليون دولار، في حين قفزت أعداد المشاهدين الى ثلاثين مليون نسمة. لهذا السبب اضطرت شركات التوزيع في أميركا الى عرضه في 350 صالة اضافية بسبب الاقبال المتزايد خلال اسبوع الآلام. وبالنظر الى تأثيره الفعّال على المشاهدين، قامت كنائس أسقفية كانتربري البريطانية بشراء بطاقات بعشرين ألف جنيه استرليني وزعتها على شبان ملحدين ومضطربين نفسياً لإيمانها بأن الصدمة التي سيحدثها، ستدفعهم الى اعادة النظر بمعتقداتهم. ويعترف «روس هيوز» الذي يقف وراء هذه الفكرة، بأن تجربته كانت عامل جذب نحو الكنيسة لأكثر من ثــــلاثة آلاف شـــاب عاشوا في فراغ روحي خـــــال من أي إيمــــــان بالله. ولقد استند «هيوز» في توقعاته على سلسلة وقائع بينها اعـــتراف رجل أميركي قال للشرطة ان الفيلم أيقظ ضميره وحــــــرضه على التراجع عن شهادته السابقة التي بــــرأته من قتل صديقــته أمام هيــــئة المحلفين. كـــذلك سلم مواطــن من «كانساس» نفـــسه للبوليس معــترفاً بأنه سطا على أحد المصارف ونجح في تضليل رجال الأمن.
ضمن سلسلة الأفلام العديدة التي تنافس على انتاجها مسيحيون ويهود، لم تهتم الأوساط العربية والاسلامية بمتابعة السجال السياسي قدر اهتمامها بالجدل الذي أثاره فيلم غيبسون عن المسيح. ولقد عبّر ياسر عرفات عن موقف الفلسطينيين تجاه هذا الجدل بعد مشاهدة الفيلم، معلناً أن آلام المسيح ذكّرته بالتماثل مع آلام الفلسطينيين الذين يعانون من ظلم اسرائيل. وكان بهذه المقارنة يحاول تصوير قرار صلب المسيح بأنه قرار مكرر لعملية «صلب» الفلسطينيين بواسطة أحفاد «قيافا» ومحفل الاحبار من كتبة وفريسيين. والملاحظ في هذا الوقت انتشار الصور الرمزية المركبة على جدران شوارع القدس الشرقية وبيت لحم وهي تمثل فلسطين مصلوبة أيضاً. وترمز عبارة عرفات وصور صلب فلسطين الى الشكوى من انصراف الغرب الى الاهتمام بفظاعات الهولوكوست، واعتبارها النكبة الوحيدة التي حدثت خلال القرن العشرين. وكل ما استنتجه المشاهد العربي من فيلم «آلام المسيح» هو ضرورة توسيع الدراية بالهولوكوست الفلسطيني، وعدم تهميش بشاعات النكبة وظلمها. وهذا ما يفسر الاقبال المنقطع النظير في بلدان عربية لم تكن شعوبها ذات الغالبية المسلمة، تهتم بمشاهدة مثل هذه الأفلام الدينية. والملفت ان الجالية الفلسطينية في بريطانيا قررت احياء ذكرى مجزرة دير ياسين هذا العام، وأرسلت بطاقات عليها صورة فلسطين مصلوبة مع عبارة «كي لا ننسى يوم 9 نيسان 1948». أي تاريخ حدوث المجزرة.
الفيلم في نظر زعماء الصهيونية كان نقطة تحول خطرة جداً لأنه أخرج من الماضي كل مقومات العداء للسامية بعدما تصوروا انهم نجحوا في وأد هذا الشعور الى الأبد. لذلك أثيرت حملات التهجم ضد غيبسون بطريقة غير مسبوقة جند اللوبي اليهودي من أجلها أفضل علماء اللاهوت وأبرز الكتاب والمفكرين والإعلاميين. بعضهم طالب بالضغط على شركات توزيع الأفلام في أميركا، الأمر الذي حصر التوزيع بأصحاب شركات يملكها كاثوليك من أصول ايرلندية واسبانية وايطالية. وجرت محاولات مماثلة في فرنسا بحجة أن الفيلم قد يفجر ردة فعل عنصرية ضد الجالية اليهودية بواسطة الشبان العرب وعناصر اليمين المتطرف. وانضم الى جوقة الترهيب كاردينال باريس لوستيجه (وهو من أصل يهودي) فهاجم غيبسون واتهمه بالسادية واثارة النعرات الطائفية. ويبدو أن هذا الاسلوب نجح في تخويف أصحاب شركات التوزيع الفرنسية، الأمر الذي انتهى بحصر وكالة توزيع الفيلم بالتونسي طارق بن عمار.
مؤسسات الضغط اليهودي في الولايات المتحدة ركزت حملتها على انتقاد المشاهد التي توحي بأن اليهود يتحملون مسؤولية جماعية في عملية صلب المسيح. ولقد حاول ابراهام فوكسمان ـ بناء على طلب مركز سيمون فايزنتال ـ اقناع غيبسون بحذف اللقطات التي تبرز أدوار التحريض التي قام بها رئيس الكهنة قيافا ومحفل الاحبار ويهوذا الاسخريوطي الذي سلمه مقابل ثلاثين من الفضة. كذلك حاول اقناعه بأهمية محو المشهد الذي يصور الحاكم الروماني بيلاطس النبطي وهو «يغسل يديه من دم هذا الصديق»، في حين يطالب الجمهور اليهودي «بأن دمه علينا وعلى أولادنا». ويقول الصحافي اندرو غامبل من لوس انجليس، ان غيبسون اكتفى بحذف الترجمة الانكليزية لعبارة «دمه علينا...» وأبقى النص الآرامي.
هذا كله يدفع الى طرح السؤال الأساسي: ما هو المغزى المناقبي أو السياسي أو الترفيهي من وراء انتاج فيلم لم تزد تكاليفه على عشرين مليون دولار، لأن الممثلات والممثلين تطوعوا للعمل مجاناً؟
الجواب على هذا مرتبط بموقف الفاتيكان من تبرئة اليهود من مسؤولية الاثم الجماعي المتوارث. ذلك ان المجمع المسكوني في منتصف الستينات قرر اعفاء اليهود من تهمة صلب المسيح وقتله بسبب فقدان الروايات الأصلية، والتأخر في وضع الاناجيل، الأمر الذي زاد من الالتباس والغموض في ظروف اعدام يسوع. علماً أن التلمود كمصدر ديني ثابت، يعترف بأن المسيح اعدم تنفيذاً لحكم محكمة دينية سليمة بتهمة الوثنية وتحريض اليهود على عبادة الأوثان واحتقار السلطات الحاخامية.
هاتون غيبسون (85 سنة) رد على هذا القرار مع نجله الممثل «ميل» بانشاء كنيسة كاثوليكية في استراليا لا تعترف بإعفاء اليهود من مسؤولية الاثم الجماعي لاقتناعهما بأن السياسة والمصالح لعبتا دوراً مهما قبل صدور هذا العفو الديني. وهما يؤمنان بأن ضغوط واشنطن على الفاتيكان والتشهير الذي لقيته البابوية عبر الكتب التي صدرت حول صداقة البابا بيوس الثاني عشر بهتلر... كانتا وراء محو الخطيئة التاريخية.
ولقد ازداد غضب ميل غيبسون ووالده على الفاتيكان اثر الاعتراف باسرائيل، وتنديد البابا يوحنا بولس الثاني بمعاداة السامية، وقوله: «ان المسيح ابن حقيقي لاسرائيل». واوضح البابا هذا الموقف بتحديد الهوية الانسانية للمسيح، انطلاقاً من علاقته مع شعب اسرائيل ومع سلالة داوود ونسب ابراهيم. وقال الحبر الاعظم في العاشر من نيسان (ابريل) 1997: «اذا أدرك المسيحيون ان المسيح كان ابناً حقيقياً لاسرائيل، فإنهم لن يقبلوا بعد ذلك بأن يضطهد اليهود او تُساء معاملتهم بوصفهم يهوداً. ان قروناً من الاحكام المسبقة والمعارضة المتبادلة حفرت هوة عميقة تسعى الكنيسة حالياً الى ردمها بتشجيع من المجمع الفاتيكاني الثاني».
وعلّق هاتون غيبسون على كلام البابا بالقول ان الفاتيكان الثاني هو مجرد مؤامرة ماسونية دعمتها اليهودية، كما دعمت مؤامرة تضخيم اعداد ضحايا الهولوكوست. وأيّده نجله «ميل» في هذا التفسير معلناً امام شاشة التلفزيون ان الحرب العالمية الثانية اوقعت ملايين الضحايا من جنسيات اخرى، وان موت ستة ملايين يهودي على ايدي النازيين هو مجرد مؤامرة ملفّقة ومختَلَقة.
وتصدى له على الفور الحاخام مارفن هاير من «لوس انجليس» ليتهمه بإنكار حقائق التاريخ وتضليل الرأي العام. كذلك هاجمه مركز سيمون فايزنتال لأن فيلم «آلام المسيح» يمثل عملية تحريض جماعي على احياء المذابح التي جرت في المدن الاوروبية خلال القرنين الماضيين.
اللوبي اليهودي ينتظر الفرصة المواتية للانقضاض على غيبسون وعلى حركة الصدام التي يمثلها عبر الفيلم الذي انشغل في اعداده منذ عشر سنوات. ولقد شجعه على انتاجه الايمان الاعمى بأن نبوءة بنيامين فرانكلين ستتحقق. اي النبوءة التي يزعم فيها الرئيس الاميركي ان اليهودية ستسيطر على الولايات المتحدة والعالم، تماماً مثلما تزعم النبوءة الروسية التي ظهرت سنة 1905 في كتاب «حكماء صهيون». لهذا كتبت «نيويورك تايمز» تقول ان هذا الفيلم يعبّر عن حال ميل غيبسون وليس عن صلب المسيح. وربما استخدمت الصحيفة هذا الوصف لتظهر رؤية المخرج الى حقيقة الوضع المسيحي في الولايات المتحدة بعدما نجحت الصهيونية في اختراق الطائفة الانجيلية وتفكيكها الى 42 فرقة دينية آخرها «المسيحيون المتجددون» و«اليهودية ـ المسيحية». ثم دخلت الى الكاثوليكية عبر التهويل بكشف دور الفاتيكان في صعود الحركة النازية. وهكذا طوعت القرار الديني الكاثوليكي بواسطة البابا، كما طوعت القرار السياسي الاميركي بواسطة الرئيس جورج بوش الذي تبين انه من اتباع اليهودية ـ المسيحية.
وكان القس بيل غراهام قد نصحه بالانتماء الى هذه الطائفة الاصولية المتشددة، بعدما عجز الاطباء عن شفائه من مرض الادمان على تعاطي الكحول.
ويستدل من الاحاديث التي اجراها ميل غيبسون حول الاهداف الكامنة وراء انتاج فيلم «الام المسيح»، انه يريد ايقاظ الضمائر الى حقيقة تاريخية نجحت الصهيونية في طمسها عن طريق استغلال مشاعر العداء للسامية. اي حقيقة مفهوم الاثم الجماعي الذي ارتكبه «قيافا» ومحفل الاحبار قبل اكثر من الفي سنة، وكيف ان هذه الجريمة تتكرر عن طريق الصهيونية وانصارها. ويتصور غيبسون ان الملايين التي شاهدت الفيلم، زائد الملايين التي ستحضره خلال هذا العام، جميعها تمثل تعاطفاً مع رسالته السياسة، تخشى اليهودية ان تترجم الى عنصرية لاسامية ضدها. لذلك قررت احتواء السخط الصامت الذي اثارته مشاهد جسد المسيح المصلوب، بدلاً من اشهار حرب سياسية سافرة ضد افكار غيبسون يصعب التنبؤ بنتائجها...